فصل: القسم الثاني من التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.القسم الثاني من التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب:

وأما الأيلي واسمه محمد بن إبراهيم فمنشؤه بتلمسان وأصله من جالية الأندلس من أهل أيلة من بلد الجوف منها أجاز بأبيه وعمه أحمد فاستخدمهم يغمراسن ابن زيان وولده في جندهم وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته فولدت له محمدا هذا ونشأ بتلمسان في كفالة جده القاضي فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجندية التي كانت منتحل أبيه وعمه فما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبة التعاليم فبرز بها واشتهر وعكف الناس عليه في تعلمها وهذا في سن البلوغ ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب وخيم عليها يحاصرها وسير العساكر إلى الأعمال فافتتح أكثرها وكان إبراهيم الأيلي قائدا بهنين مرسى تلمسان في لجة من الجند فلما ملكها يوسف بن يعقوب اعتقل من وجد بها من أشياع بني عبد الواد واعتقل إبراهيم الأيلي وشاع الخبر في تلمسان بأن يوسف ابن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم فتشوف ابنه محمد إلى اللحاق بهم من أجل ذلك وأغراه أهله بالعزم عليه فتسور الأسوار وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحا واستخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلس بين بتاوريرت فكره المقام على ذلك ونزع عن طوره ولبس المسوح وسار قاصدا إلى الحج وانتهى إلى رباط العباد مختفيا في صحبة الفقراء فوجد هنالك رئيسا من أهل كربلاء من بني الحسين جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوته فيه وكان مغفلا فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب وشدة غلبه أيس من مرامه ونزع عن ذلك واعتزم على الرجوع إلى بلده فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته.
قال رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله وما جاء له واندرجت في جملته وأصحابه وتابعيه قال: وكان يتلقاه في كل بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد والنفقات من بلده إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية قال: واشتدت علي الغلمة في البحر واستحييت من كثرة الاغتسال لمكان هذا الرئيس فأشار على بعض بطانته بشرب الكافور فاغترفت منه غرفة فشربتها فاختلطت وقدم الديار المصرية على تلك الحال وبها يومئذ تقي الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة وصفي الدين الهندي والتبريزي وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول فلم يكن قصاراه إلا تمييز أشخاصهم إذا ذكرهم لنا لما كان به من الاختلاط ثم حج مع ذلك الرئيس وسار في جملته إلى كربلاء فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه ببلاد زواوة من أطر إلى المغرب وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب واستبطنتها في جبة كنت ألبسها فلما نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيعوني إلى المغرب دفعها إليهم حتى إذا أوصلوني إلى المأمن أعطوني إياها وأشهدوا علي في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار فعاد إلى تلمسان وقد أفاق من اختلاطه وانبعثت همته إلى تعلم العلم وكان مائلا إلى العقليات فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام وجملة من الأصلين وكان أبو حمو صاحب تلمسان قد استفحل ملكه وكان ضابطا للأمور وبلغه عن شيخنا تقدمه في علم الحساب فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة أحواله وتفادى شيخنا من ذلك فأكرهه عليه فأعمل الحيلة في الخلاص منه ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع وبعث فيه أبو حمو فاختفى بفاس للتعاليم من اليهودي خليفة المغيلي فاستوفى عليه فنونها وحذق وخرج متواريا من فاس فلحق بمراكش أعوام عشر وسبعمائة ونزل على الإمام أبي العباس بن البناء شيخ المعقول والمنقول والمبرز في التصوف علما وحالا فلزمه وأخذ عنه وتضلع في المعقول والتعاليم وا لحكمة ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه وكان في طاعة السلطان فدخل إليه شيخنا وأقام عنده مدة قرأ عليه فيها وحصل واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ فكثرت إفادته واستفادته وعلي ابن محمد في ذلك على محبته وتعظيمه وامتثال إشارته فغلب على هواه وعظمت رياسته في تلك القبائل ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله نزل الشيخ معه وسكن بفاس وانثال عليه طلبة العلم من كل ناحية فانتشر علمه واشتهر ذكره فلما فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام ذكره له بأطيب الذكر ووصفه بالتقدم في العلوم وكان السلطان معتنيا بجمع العلماء بمجلسه كما ذكرناه فاستدعاه من مكانه بفاس ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه وعكف على التدريس والتعليم ولزم صحابة السلطان وحضر معه واقعة طريف وواقعة القيروان بإفريقية وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله خلة كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه فلزمت مجلسه وأخذت عنه العلوم العقلية بالتعاليم ثم قرأت المنطق وما بعده من الأصلين وعلوم الحكمة وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا فأشرنا عليه بالمقام وثبطناه عن السفر فقبل وأقام وطالبنا به السلطان أبو الحسن فأحسنا له العذر فتجافى عنه وكان من حديث غرقه في البحر ما قدمناه وأقام الشيخ بتونس ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه والأخذ عنه فلما هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتانة وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله وملك تلمسان من بني عبد الواد كتب فيه يطلبه من صاحب تونس وسلطانها يومئذ أبو اسحق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى في كفالة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين فأسلمه إلى سفيره وركب معه البحر في أسطول أبي عنان الذي جاء فيه السفير ومر ببجاية ودخلها وأقام بها شهرا حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول ثم ارتحل ونزل بمرسى هنين وقدم على أبي عنان بتلمسان وأحله محل التكرمة ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء وكان يقرأ عليه ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وأما (عبد المهيمن) كاتب السلطان أبي الحسن فأصله من سبتة وبيتهم بها قديم وبعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته وأخذ عن مشيختها واختص بالأستاذ أبي اسحق الغافقي ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد صاحب الأندلس سبتة ونقل بني العزفي في جملة أعيانها إلى غرناطة ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه عبد المهيمن فاستكمل قراءة العلم هنالك وقرأ على مشيختها ابن الزبير ونظرائه وتقدم في معرفة كتاب سيبويه وبرز في علو الإسناد وكثرة المشيخة فكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ الوزير أبو عبد الله ابن الحكيم الرندي المستبد على السلطان المخلوع ابن الأحمر فكتب عنه ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه مثل المحدث أبي عبد الله بن سيد الفهري وأبي العباس أحمد العزفي والعالم الصوفي المتجرد أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصا به وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة فلما انكب الوزير الحكيم وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها ثم ولي الأمر أبو سعيد وغلب عليه ابنه أبو علي واستبد بحمل الدولة تشوف إلى استدعاء الفضلاء وتجمل بمكانهم فاستقدم عبد المهيمن من سبتة واستكتبه سنة اثني عشرة وسبعمائة ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة وامتنع بالبلد الجديد وخرج منا إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه فتمسك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن واتخذه كاتبا إلى أن دفعه إلى رياسة الكتاب ورسم علامته في الرسائل والأوامر فتقدم لذلك سنة ثمان عشرة وسبعمائة ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية وتخلف عن واقعة القيروان بتونس لما كان به من علة التقرس فلما كانت الهيعة بتونس ووصل خبر الواقعة وتحيز أولياء السلطان إلى القصبة مع حرمه تسرب عبد المهيمن في المدينة منتبذا عنهم وتوارى في بيتنا خشية أن يصاب معهم بمكروه فلما انجلت تلك النيابة ورجع السلطان من القيروان إلى سوسة وركب منها البحر إلى تونس أعرض عن عبد المهيمن لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين وقد كانت من قبل مقصورة على هذا البيت وأقام عبد المهيمن عطلا من العمل شهرا ثم اعتبه السلطان ورضي عنه ورد إليه العلامة كما كان ثم توفي لأيام قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالع هناك من أحب الوقوف عليه.
وأما ابن رضوان الذي ذكره الرحوي في قصيدته فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري أصله من الأندلس نشأ بمالقة وأخذ عن مشيختها وحذق في العربية والأدب وتفنن في العلوم ونظم ونثر وكان مجيدا في الترسيل ومحسنا في كتابة الوثائق وارتحل بعد واقعة طريف ونزل سبتة ولقي بها السلطان أبا الحسن ومدحه وأجازه واختص بالقاضي إبراهيم بن يحيى وهو يومئذ قاضي العساكر وخطيب السلطان وكان يستنيبه في القضاء والخطابة ثم نظمه في جملة الكتاب بباب السلطان اختص بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتاب والأخذ عنه إلى أن رحل السلطان إلى إفريقية وكانت واقعة القيروان وانحصر بالقصبة بتونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله وحرمه وكان السلطان قد خلف ابن رضوان في بعض خدمته فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات وتولى كبر ذلك فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان فرعى له حق خدمته تأنيسا وقربا وكثرة استعمال إلى أن رحل من تونس في الأسطول إلى المغرب سنة خمسين وسبعمائة كما مر واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل وخلف أبا القاسم بن رضوان كاتبا له فأقاما كذلك أياما ثم غلبهم على تونس سلطان الموحدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى ونجا أبو الفضل إلى أبيه ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه فأقام بتونس حولا ثم ركب البحر إلى الأندلس وأقام بالمرية مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن كان فيهم عامر ابن محمد بن علي شيخ هنتاتة كافلا لحرم السلطان لأبي الحسن وابنه أركبهم السفين معه من تونس عندما ارتحل فخلص إلى الأندلس ونزلوا بالمرية وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس فلحق بهم ابن رضوان وأقام معهم ودعاه أبو الحجاج سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع ثم هلك السلطان أبو الحسن وارتحل مخلفه الذين كانوا بالمرية ووفدوا على السلطان أبي عنان ووفد معهم ابن رضوان فرعى له وسائله في خدمة أبيه واستكتبه واختصه بشهود مجلسه مع طلبة العلم بحضرته وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة ونجي الخلوة وصاحب العلامة وحسبان الجباية والعساكر قد غلب على هوى السلطان واختص به فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بذمة ولاية وصحبة وانتظام في السمر وغشيان المجالس الخاصة وهو مع ذلك يدنيه من السلطان وينفق سوته عنده ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم فحلا بعين السلطان ونفقت عنده فضائله فلما سار أبو عمرو في العساكر إلى بجاية سنة أرج وخمسين وسبعمائة انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان ثم رجع ابن أبي عمرو وقد سخطه السلطان فأقصاه إلى بجاية وولاه عليها وعلى سائر أعمالها وعلى حرب الموحدين بقسنطينة وأفرد ابن رضوان بالكتابة وجعل إليه العلامة كما كانت لابن أبي عمرو فاستقل بها موفر الاقطاع والإسهام والجاه ثم سخطه أخر سبع وخمسين وسبعمائة وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين والإنشاء والتوقيع لأبي اسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي فلما كانت دولة السلطان أبي سالم جعل العلامة لعلي بن محمد بن مسعود صاحب ديوان العساكر والإنشاء والتوقيع والسر لمؤلف الكتاب عبد الرحمن ابن خلدون ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة واستبد الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه فجعل العلامة لابن رضوان سائر أيامه وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن واستبد بملكه فلم يزل ابن رضوان على العلامة وهلك عبد العزيز وولي ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس وابن رضوان على حاله ثم غلب السلطان أحمد على الملك وانتزعه من السعيد وأبي بكر بن غازي وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس مستبدا عليه والعلامة لابن رضوان كما كانت إلى أن هلك بأزمور في حركة السلطان أحمد إلى مراكش لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي.
وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق وتخطت النكبة مهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدر من آجالهم.
فمن حضر معه بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الزواوي شيخ القراء بالمغرب أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس وروى عن الرحالة أبي عبد الله بن رشيد وكان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا يجاري وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود وكان يصلي بالسلطان التراويح ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه.
وممن حضر معه بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصباغ من أهل مكناسة كان مبرزا في المعقول والمنقول وعارفا بالحديث وبرجاله وإماما في معرفة كتاب الموطأ وإقرائه أخذ العلوم عن مشيخة فاس ومكناسة ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلي ولازمه وأخذ عنه العلوم العقلية فاستنفد بغية طلبه عليه فبرز آخرا واختاره السلطان لمجلسه واستدعاه ولم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول.
ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور من أعمال ندرومة ونسبه في صنهاجة كان مبرزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس تفقه فيه على الآخرين أبى زيد وأبي موسى ابني الإمام وكان من جملة أصحابهما ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان رفع من منزلة ابني الإمام واختصهما بالشورى في بلدهما وكان يستكثر من أهل العلم في دولته ويجرى لهم الأرزاق ويعمر بهم مجلسه فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس فأشار عليه بابن عبد النور هذا فأدناه وقرب مجلسه وولاه قضاء عسكره ولم يزل في جملته إلى أن هلك بالطاعون بتونس سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان قد خلف أخاه عليا رفيقه في تدريس ابن الإمام إلا أنه أقصر باعا منه في الفقه فلما خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن ونهض إلى فاس استنفره في جملته وولاه قضاء مكناسة فلم يزل بها حتى تغلب عمر بن عبد الله على الدولة كما مر فنزع إلى قضاء فرضه فسرحه فخرج حاجا سنة أربع وستين وسبعمائة فلما قدم على مكة وكان به بقية مرض هلك في طواف القدوم وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ يلبغا الخاصكي فأحسن خلافته فيه وولاه من وظائف الفقهاء ما سد به ختله وصان عن سؤال الناس وجهه وكان له عفا الله عنه كلف بعلم الكيمياء طالبا لمن غلط في ذلك وأمثاله فلم يزل يعاني من ذلك ما يورطه مع الناس في دينه وعرضه إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر ولحق ببغداد وناله مثل ذلك فلحق بماردين واستقر عند صاحبها فأحسن جواره إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه والبقاء لله وحده.
ومنهم شيخ التعاليم أبو عبد الله محمد بن النجار من أهل تلمسان أخذ العلم ببلده عن مشيختها وعن شيخنا الأيلي وبرز عليه ثم ارتحل إلى المغرب فلقي بسبتة إمام التعاليم أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطي في الهيئة وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العباس بن البناء وكان إماما في علم النجامة وأحكامها وما يتعلق بها ورجع إلى تلمسان بعلم كثير واستخلصته الدولة فلما هلك أبو تاشفين وملك السلطان أبو الحسن نظمه في جملته وأجرى له رزقه فحضر معه بإفريقية وهلك في الطاعون.
ومنهم أبو العباس أحمد بن شعيب من أهل فاس برع في الأدب واللسان والعلوم العقلية من الفلسفة والتعاليم والطب وغيرها ونظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتاب وأجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه فكان كاتبه وطبيبه وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده فحضر بإفريقية وهلك بها في ذلك الطاعون وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدمين والمتأخرين وكانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به وما حضرني الآن من شعره إلا قوله:
دار الهوى نجد وساكنها ** أقصى أماني النفس من نجد

هل باكر الوسمي ساحتها ** واستن في قيعانها الجرد

أو بات معتل النسيم بها ** مستشفيا بالبان والرند

يتلو أحاديث الذين هم ** قصدي وإن جاروا عن القصد

أيام سمر ظلالها وطني ** منها وزرق مياهها وردي

ومطارح النظرات في رشاء ** أحوى المدامع أهيف القد

يرنو إليك بعين جارية ** قتل المحب بها على عمد

حتى أجد بهم على عجل ** ريب الخطوب وعاثر الجد

فقدوا فما وأبيك بعدهم ** عيشي شفى إلا على الفقد

وغدوا دفينا قد تضمنه ** بطن الثري وقرارة اللحد

ومشردا من دون رؤيته ** قذف النوى وتنوفة البعد

أجرى علي العيش بعدهم ** أني جرعت حميمهم وحدي

لا تلحني يا صاح في شجن ** أخفيت منه فوق ما أبدى

بالقرب لي سكن يؤوبني ** من ذكره سهد على سهد

فرخان قد تركا بمضيعة ** رزئت عن الرفداء والرفد

ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد ومتوارثين خدمة تربيه من لدن جدهم خادمه في حياته وكان جده الخامس أو السادس واسمه أبو بكر بن مرزوق معروفا بالولاية فيهم ولما هلك دفنه يغمراسن بن زيان السلطان بتلمسان من بني عبد الواد في التربة بقصره ليدفن بإزائه متى قدر بوفاته ونشأ محمد هذا بتلمسان ومولده فما أخبرني سنة عشر وسبعمائة وارتحل مع أبيه إلى المشرق سنة ثمان عشرة وسبعمائة ومر ببجاية فسمع بها على الشيخ أبي علي ناصر الدين ودخل الشرق وجاور أبوه بالحرمين الشريفين ورجع هو إلى القاهرة وأقام بها وقرأ على برهان الدين الصفاقصي الممالكي وأخيه وبرع في الطلب والرواية وكان يجيد الخطين ثم رجع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة إلى المغرب ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان وقد شيد بالعباد مسجدا عظيما وكان عمه ابن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العباد وتوفي فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه وسعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره والثناء عليه فحلا بعينه واختصه وقربه وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء والأكابر والأخذ عنهم والسلطان كل يوم يزيد ترقيه وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس ثم سفر عنه بعد أن ملك إفريقية إلى ابن أدفونش ملك قشتالة في تقرير الصلح واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين كان أسر يوم طريف فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان ورجع بتاشفين مع طائفة من زعماء النصرانية جاؤا في السفارة عن ملكهم ولقيهم خبر واقعة القيروان بقسنطينة من بلاد إفريقية وبها عامل السلطان وحاميته فثار أهل قسنطينة بهم جميعا ونهبوهم وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى وراجعوا الموحدين واستدعوه فجاء إليهم وملك البلد وانطلق ابن مرزوق عائدا إلى المغرب مع جماعة من الأعيان والعمال والسفراء عن الملوك ووفد على السلطان أبي عنان مع أمة حظية أبي الحسن وأثيرته كانت راحلة إليه فأدركها الخبر بقسنطينة وحضرت الهيعة فوثب ابنها أبو عنان على ملك أبيه واستيلائه على فاس فرجعت إليه وابن مرزوق في خدمتها ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرحوه إليها وأقام بالعباد مكان سلفه وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيان قد بايع له قبيلة بني عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة كما مر في أخبارهم وانصرفوا إلى تلمسان فوجدا بها أبا سعيد عثمان بن جرار وقد استعمله عليها السلطان أبو عنان عند انتقاضه على أبيه ومسيره إلى فاس وانتقض ابن جرار من بعده ودعا لنفسه وصمد إليه عثمان بن عبد الرحمن ومعه أخوه أبو وثابت وقومهما فملكوا تلمسان من يد ابن جرار وحبسوه ثم قتلوه واستبد أبو سعيد بملك تلمسان وأخوه أبو ثابت يردفه وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس وغرق أسطوله ونجا هو إلى الجزائر فاحتل بها وأخذ في الحشد إلى تلمسان فرأى أبو سعيد أن يكف غربه عنهم بمواصلة تقع بينهما واختار لذلك الخطيب ابن مرزوق فاستدعاه وأسر إليه بما يلقيه عند السلطان أبي الحسن وذهب لذلك على طريق الصحراء وأطل أبو ثابت وقومه على الخبر فنكروه على أبي سعيد وعاتبوه فأنكر فبعثوا صغير بن عامر في اعتراض ابن مرزوق فجاء به وحبسوه أياما ثم أجازوه البحر إن الأندلس فنزل على السلطان أبي الحجاج بغرناطة وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف فرعى له أبو الحجاج ذمة تلك المعرفة وأدناه واستعمله في الخطابة بجامعة بالحمراء فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين وسبعمائة بعد مهلك أبيه واستيلائه على تلمسان وأعمالها فقدم عليه ورعى له وسائله ونظمه في أكابر أهل مجلسه وكان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العلي ويدرس في نوبته مع من يدرس في مجلسه منهم ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ليخطب له ابنه السلطان أبي يحيى فردت تلك الخطبة واختفت بتونس ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها فسخطه لذلك ورجع السلطان من قسنطينة فثار أهل تونس بمن كان بها من عماله وحاميته واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهدية فجاء وملك البلد وركب القوم الأسطول ونزلوا بمرامي تلمسان وأوعز السلطان باعتقال ابن مرزوق وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدمي الحجاب ببابه فلقيه بتاسالت فقيده هنالك وجاء به فأحضره السلطان وقرعه ثم حبسه مدة وأطلقه بين يدي مهلكه.
واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان وبايع بعض بني مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق وحاصروا البلد الجديد وبها ابنه السعيد ووزيره المستبد عليه الحسن بن عمر وكان السلطان أبو سالم بالأندلس غربه إليها أخوه السلطان أبو عنان مع بني عمهم ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن وحصولهم جميعا في قبضته فلما توفي أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس مستبدا على ابن السلطان أبي الحجاج فلحق هو بإشبيلية من دار الحرب ونزل على بطرة ملكهم يومئذ فهيأ له السفن وأجازه إلى العدوة فنزل بجبل الصفيحة من بلاد غمارة وقام بدعوته بنو مسير وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم ثم أمدوه واستولى على ملكه في خبر طويل ذكرناه في أخبار دولته وكان ابن مرزوق يداخله وهو بالأندلس ويستخدم له ويفاوضه في أموره وربما كان يكاتبه وهو بجبل الصفيحة ويداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته فلما ملك السلطان أبو سالم رعى له تلك الوسائل أجمع ورفعه على الناس وألقى عليه محبته وجعل زمام الأمور بيده فوطىء الناس عقبه وغشى أشراف الدولة بابه وصرفت الوجوه إليه فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة ونقموه على السلطان وتربصوا به حتى وثب عبد الله بن عمر بالبلد الجديد وافترق الناس عن السلطان وقتله عمر بن عبد الله أخر اثنتين وستين وسبعمائة وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الذي نصبه محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن فامتحنه واستصفاه ثم أطلقه بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم ولحق بتونس سنة أربع وستين وسبعمائة ونزل على السلطان أبي اسحق وصاحب دولته المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين فأكرموا نزله وولوه الخطابة بجامع الموحدين بتونس وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو اسحق سنة سبعين وسبعمائة وولى ابنه خالد وزحف السلطان أبو العباس حافد السلطان أبي يحيى من مقره بقسنطينة إلى تونس فملكها وقتل خالدا سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
وكان ابن مرزوق يستريب منه لما كان يميل وهو بفاس مع ابن عمه محمد صاحب بجاية ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه فعزله السلطان أبو العباس عن الخطبة بتونس فوجم لها وأجمع الرحلة إلى المشرق وسرحه السلطان فركب السفن ونزل بالإسكندرية ثم رحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم وأمراء الدولة ونفقت بضائعه عندهم وأوصلوه إلى السلطان وهو يومئذ الأشرف فكان يحضر يومئذ مجلسه وولاه الوظائف العلمية فكان ينتجع منا معاشه وكان الذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن آقبغا آض لقيه أول قدومه فحلا بعينه واستظرف جملته فسعى له وأنجح سعايته ولم بزل مقيما بالقاهرة موقر الرتبة معروف الفضيلة مرشحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس في وظائفه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة هكذا ذكر من حضره من جملة السلطان أبي الحسن من أشياخنا وأصحابنا وليس موضوع الكتاب الإطالة فلنقتصر على هذا القدر ونرجع إلى ما كنا فيه من أخبار المؤلف.